من المعلوم عند أهل اللغة أنّ حرف الفاء يدل على الترتيب والتعقيب؛ فعندما نقول:"جاء أحمد فمحمود" فإننا نقصد أن نقول:" جاء أحمد وجاء بعده محمود، بغير فارقٍ زمنيّ طويل"، فحرف الفاء يشير إلى العلاقة الترتيبيّة والزمنيّة بين الفعلين: (جاء و جاء)، وعليه لا بدّ أن يأتي في اللفظ بين الفعلين. أمّا حرف الواو فلا بدّ أن يأتي أيضاً بين الفعلين، ولكن لا يدلّ بالضرورة على ترتيب ولا تعقيب.
ما نطرحه الآن هو استقراء لتكرار كلمة (لمّا) في سورة يوسف، وذلك عندما يسبقها حرف الفاء، أو حرف الواو. وقد خرجنا بنتيجة نظن أنّها لم ترد عند أهل اللغة، ولا مانع من ذلك، لأنّ قواعد اللغة العربيّة هي في الأصل استقرائيّة.
جاء في سورة يوسف:
" وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ..." 95
" وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ..." 65
" وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ..." 94
" وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ..." 69
" فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ..." 63
" فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ..." 70
" فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرّ" 88
" فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ..." 99
اللافت في الآيات الأربع الأولى أنّه تمّ استخدام ولمّا. أمّا في الآيات الأربع التالية فقد تمّ استخدام فلما. وقد وردت ولمّا في سورة يوسف 6 مرّات، في حين وردت فلمّا في السورة 12 مرّة. وفي محاولة لاستنباط القاعدة في استخدام الفاء والواو مع لمّا نقوم باستعراض الآيات السالفة:
" وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ".
هناك فارق زمنيّ بين تجهيز حمولة أخوة يوسف ووصية يوسف، عليه السلام، لهم، لأنّ الرحيل في العادة لا يكون بعد التجهيز مباشرة، وإنما كان يرتبط بالوقت المناسب لرحيل القوافل. ولا تكون الوصية في الغالب إلا عند اقتراب الرحيل، أو عند وداع المسافرين. من هنا، ونظراً لوجود فارق زمنيّ بين الفعل جَهَّزَ والفعل قَالَ ، ناسب أن ترد الواو مع الأداة لمّا.
" فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ".
جاءت الفاء هنا مع الأداة لمّا لعدم وجود فارق زمنيّ كبير بين الفعل جَهَّزَ والفعل جَعَلَ، لأنّ يوسف، عليه السلام، عندما أراد أن يضع صُواع الملك في رحل أخيه الصغير اختار أن يكون ذلك عند تجهيز الرحال.
" وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ ".
استخدمت الواو مع الأداة لمّا هنا نظراً لوجود فارق زمنيّ بين الفعل دَخَلُواْ والفعل آوَى، لأنّ يوسف، عليه السلام، لم يكن قد كشف عن شخصيّته لإخوته، وبالتالي لم يكن بالإمكان أن يخلو بأخيه الصغير فور دخولهم، بل كان لا بد له من الحيلة وانتهاز الفرصة أو افتعالها، لينفرد به ويعرّفه على نفسه.
" فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ".
جاءت الفاء هنا مع الأداة لمّا لعدم وجود فارق زمنيّ بين الفعل دَخَلَ والفعل آوَى، وذلك لأنّ يوسف، عليه السلام، كان ينتظر حضور أبويه على أحرّ من الجمر، فكيف لا يسارع إلى ضمّهما وإيوائهما إليه بمجرّد دخولهما؟!
" وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ ".
جاءت الواو مع الأداة لمّا هنا نظراً لوجود فارق زمنيّ بين الفعل فَتَحُواْ، والفعل وَجَدُواْ، وذلك لأنّ اكتشاف البضاعة المُخبّأة داخل أكياس القمح، أو غيره من المواد التموينيّة، لا يتم بمجرد فتح هذه الأكياس، بل لا بد من مرور بعض الأيام، وعلى وجه الخصوص، في ذلك الزمن، الذي كانت فيه أساليب الطحن بدائيّة، فيتمّ الأخذ من الأكياس شيئاً فشيئاً. في المقابل لا يُتوقّع أن تُجعل بضاعتهم، التي قدّموها كثمنٍ للمواد التموينيّة، في فم الأكياس:" وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ..."، والجعلُ في الرحال فيه معنى الإخفاء في الداخل. وقد يَحسُن هنا أن نلفت الانتباه إلى أنّ إخوة يوسف، عليه السلام، كانوا يعيشون في مجتمع بدوي مما يعني أنّ بضاعتهم يمكن أن تكون من المنسوجات أو المصنوعات، وعلى وجه الخصوص الحليّ المختلفة.
" وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ".
وردت الواو مع الأداة لمّا هنا نظراً لوجود فارق زمنيّ بين الفعل فصل والفعل قال، لأنّ القوافل تقترب شيئاً فشيئاً، وعندما تقترب تبدأ بالانفصال يميناً وشمالاً، كلٌ يقصد قبيلته، ويستغرق ذلك زمناً. وقد استشعر يعقوب، عليه السلام، ذلك، ووجد في نفسه قرب لقاء يوسف، عليه السلام. ويتكرر الوجدان لديه ويقوى إلا أنّه يكتم ذلك، خشية التكذيب:"وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ"، فاستخدام الفعل أَجِدُ يدل على تكرار واستمرار الوجدان. ولمّا قوي لديه، عليه السلام، ذلك صرّح به، وطول الكتمان تشير إليه لَوْلاَ؛ أي لولا معرفته، عليه السلام، بموقفهم المُكذّب، لسارع إلى الإخبار بما وجده من إشعار ربّاني.
" فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ ".
أمّا هنا فجاءت الفاء مع الأداة لمّا وذلك لعدم وجود فارق زمنيّ كبير بين الفعل رَجَعَ والفعل قال، وهذا يشير إلى مسارعة إخوة يوسف، عليه السلام، لإخبار أبيهم بأنّهم قد مُنعوا من الرجوع إلى مصر. وهذه المسارعة كانت بمجرد لقائه، كيف لا، وهي مسألة في غاية الأهميّة في مجتمع بدوي يعاني من القحط الشديد؟! ويضاف إلى ذلك أنّهم قوم من البدو البسطاء، والمسارعة إلى عرض المشكلات لديهم من الأمور المتصوّرة في مثل هذه الحالات. وقد يكون من مقاصد القرآن الكريم هنا أن يكشف عن هذه الحقيقة النفسيّة.
" فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ ".
جاءت الفاء هنا مع الأداة لمّا لعدم وجود فارق زمنيّ كبير بين الفعل دَخَلَ والفعل قالَ، لأنّ أخوة يوسف، عليهم السلام، قد جاءوا وهم في حالة شديدة من الضنك والمعاناة، كما هو ظاهر في النص الكريم. ومن المتصوّر عندها أن يبادروا إلىعرض مشكلتهم بمجرد دخولهم على العزيز. وفي هذا تشخيص بليغ لواقعهم النفسي الناتج عن واقعهم الاقتصادي. ولا عجب عندها أن يبادر يوسف، عليه السلام، إلى الكشف عن حقيقته!
من هنا ندرك أنّ البلاغة ليست مجرد قدرة على التلاعب بالألفاظ، بل هي القدرة على البيان عن الواقع وتشخيصه في أصدق وأجمل صورة.